أخذ التحقيق في انفجار مرفأ بيروت منعرجا جديدا، بعد الانقسام في الجهاز القضائي مع إعلان المدعي العام التمييزي غسان عويدات الأربعاء الادعاء ضد القاضي المكلف بالتحقيق طارق بيطار. وكان الأخير قد أمر الثلاثاء بالادعاء على ثمانية أشخاص، بينهم عويدات ومسؤولان أمنيان رفيعان، غداة استئناف التحقيق الذي تم تعليقه منذ أكثر من عام. فيما جعلت التطورات الأخيرة عائلات الضحايا تشعر بخيبة أمل في إمكانية تحقيق العدالة.
بعد أن تعطل منذ 13 شهرا، عاد التحقيق حول انفجار مرفأ بيروت إلى الواجهة خلال الأيام الماضية في يعتبر ليّ ذراع داخل السلطة القضائية، بين المدعي العام التمييزي غسان عويدات والقاضي المكلف بالتحقيق في ملابسات الانفجار طارق بيطار.
وأعلن بيطار الاثنين 23 كانون الثاني/ يناير استئناف التحقيق، متجاهلا الضغوط والتعطيل السياسي-القضائي الذي يواجهه منذ تكليفه بالملف.
كما أحدث قراره استدعاء عدة وجوه سياسية وأمنية بارزة للاستجواب في 6 شباط/ فبراير المقبل، ضجة واسعة.
فبالإضافة إلى الوزيرين السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر، التابعين لحزب أمل الذي يتزعمه رئيس البرلمان نبيه بري، استدعى بيطار بالخصوص رئيس الوزراء السابق حسان دياب، بالإضافة إلى مدير أمن الدولة طوني صاليبا المقرب من الرئيس السابق ميشال عون ومدير الأمن العام عباس إبراهيم الذي يعتبر مقربا من الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل.
الادعاء على القاضي بيطار
بعد هذا القرار الذي يبدو أنه مستعد ليلعب فيه كل أوراقه، شن بيطار هجوما كبيرا على الجهاز القضائي بتتبعه المدعي العام غسان عويدات. وكان عويدات رفض تولي التحقيق في ملف الانفجار بسبب وجود علاقة قرابة بينه وبين النائب غازي زعيتر الذي يواجه ملاحقة قضائية في الملف.
وحسب تصريح مسؤول قضائي لوكالة الأنباء الفرنسية، فإن غسان عويدات أشرف على تحقيق لمصالح الأمن في 2019 حول وجود شقوق في المخزن الذي أودعت به مئات الأطنان من نترات الأمونيوم، والتي تسببت في الانفجار. ويحمل شق واسع من اللبنانيين مسؤولية الانفجار لإهمال الطبقة الحاكمة والفساد المستشري، والذي كان المرفأ أحد رموزه.
وبالإضافة إلى أعلى سلطة قضائية بالبلاد، يريد بيطار الاستماع إلى ثلاثة قضاة آخرين على علاقة بالملف، حسب تأكيد مصدرين قضائيين لرويترز.
والأربعاء 25 كانون الثاني/ يناير، رد عويدات بإطلاق سراح 17 موقوفا في قضية انفجار 4 آب/ أغسطس 2020، وادعى على بيطار بتهمة “التمرد على القضاء واغتصاب السلطة”. وكان الادعاء العام قد أكد أن التحقيق مازال معلقا كما استدعى بيطار للمثول أمام القضاء.
بالمقابل، رد بيطار بالقول لوكالة الأنباء الفرنسية “أنا ما زلت المحقق العدلي ولن أتنحى عن الملف، أما عويدات فلا صلاحية له للادعاء علي”. كما رفض بيطار الدعوة للمثول أمام القضاء الخميس.
من جهتها، قالت صحيفة لوريون دي جور اللبنانية الناطقة بالفرنسية، إن خطوة عويدات “المدعومة من جزء من الطبقة السياسية والجهاز الأمني”، هي “بمثابة انقلاب ضد بيطار”.
وفي تصريح لنفس الصحيفة، اعتبر المدعي العام السابق حاتم مادي أن “القانون لا يمنح للمدعي العام حق إطلاق سراح موقوفين، بل أن من أمر بإيقافهم هو وحده صاحب صلاحية الأمر بالإفراج عنهم”. من جهته، أوضح الرئيس السابق لمجلس الدولة شكري صدر لنفس الصحيفة، أن “القاضي عويدات نسي أنه رفض تولي التحقيق في القضية والآن يريد أن يستحوذ على الملف. هذه سابقة في تاريخ السلطة القضائية على المستوى العالمي”.
“المدعي العام يتصرف كأحد بيادق النظام”
وأدى المنعرج الأخير للأحداث إلى غضب عائلات الضحايا التي استبشرت في البداية باستئناف التحقيق. وتظاهر عشرات الأشخاص أمام منزل عويدات مساء الأربعاء.
“نكافح منذ 13 شهرا من أجل استئناف مجرى العدالة، ومجرد رؤية القاضي بيطار يعيد تولي الأمور كان مفاجأة كبيرة بالنسبة لنا”، هذا ما صرح به بول نجار والد ألكسندار إحدى أصغر ضحايا المأساة، الذي يضيف: “شجاعته جددت أملنا في القضاء اللبناني وإن كنا نتوقع رد فعل النظام الإجرامي الذي حاول منذ البداية إبعاد القاضي بيطار عن الملف”.
وبقي التحقيق عالقا بسبب اعتراضات عدد من المسؤولين السياسيين الذي تم استدعائهم للتحقيق معهم ومن بينهم وزير الأشغال العامة السابق يوسف فنيانوس. واعتبرت الطبقة الحاكمة في لبنان أن القضاء تجاوز صلاحياته، ورفضت رفع الحصانة عن نواب سابقين ومسؤولين أمنيين يريد بيطار استجوابهم.
وفي أيلول/ سبتمبر 2021، هدد مسؤول كبير في حزب الله بـ”اقتلاع” القاضي بيطار من منصبه، متهما إياه بأنه مسيس، تزامنا مع رواج شائعات بتورط الحزب المقرب من إيران في تخزين أطنان نترات الأمونيوم التي تسبب بالانفجار.
وفي 14 تشرين الأول/ أكتوبر، أودت اشتباكات بحياة 6 أشخاص في بيروت على هامش مظاهرة نظمها حزب الله وحليفه الشيعي حركة أمل، أمام قصر العدالة للمطالبة باستبدال القاضي بيطار.
ويردف بول نجار: “كنت أتوقع هجوما معاكسا من المدعي العام، لكن ليس بهذا الحجم، وليس بوضع حد لدولة القانون أو ما تبقى منها، دولة القانون قد ماتت في لبنان. في ظل الانفجار الداخلي لآخر المؤسسات الذي كانت تعمل، لا يتعلق الرهان بالقاضي بيطار أو حتى انفجار 4 آب/ أغسطس، بل بكل الناس وكل التحقيقات الجارية”.
وأضاف نجار: “يستهدف هجوم المدعي العام على القاضي في الواقع أولئك الذين كانوا يثقون في القضاء بهذه البلاد، ويؤكد أن لبنان في طريقه للتحول نهائيا إلى جمهورية موز”.
ورغم الغضب والخيبة، ما يزال بول نجار يعتبر أن طارق بيطار يبقى رجل المرحلة، مضيفا أنه لا يجب أن يرمي المنشفة “أمام المدعي العام الذي يتصرف كأحد بيادق النظام رغم رفضه تولي الملف في البداية. لديّ ثقة في بيطار لأنه يعمل بجد منذ تعيينه. لم يرتكب أي خطأ حتى الآن ولا يتردد في مهاجمة الحيتان الكبيرة، ولدينا انطباع أنه يملك دعم قضاة دوليين يتابعون الملف. على سبيل المثال، لاحظت أنه أعاد أخذ المبادرة في الأيام الأخيرة بعد زيارة قضاة فرنسيين”.
وكان طارق بيطار قد التقى في 18 كانون الثاني/ يناير بوفد قضائي فرنسي حل بلبنان للتحقيق بمقتل مواطنين فرنسيين بسبب الانفجار.
“نحن بصدد التوجه إلى مواجهة مباشرة”
في المقابل، تبدى عائلات الضحايا قلقا من التطورات المقبلة: هل يتخلى طارق بيطار عن الملف؟ كيف يمكن له استئناف عمله في حال عدم تمكنه من تنفيذ قراراته؟
هنا، يقر بول النجار “لم يعد هناك الكثير من الأوراق المتاحة باستثناء ممارسة أقصى الضغوط على المدعي العام حتى يعي بانعكاسات خطواته التي تغتصب قضيتنا ولب القضاء اللبناني. لقد بلغ الأمر أشده برؤية قاض مكلف بالتحقيق محل متابعة قضائية من طرف من قرر ملاحقتهم في إطار التحقيق.
والخميس، تجمع أكثر من 200 متظاهر أمام قصر العدالة ببيروت، للاحتجاج على عرقلة التحقيق في الانفجار، فيما يستعد مجلس القضاء الأعلى للانعقاد لمناقشة مصير التحقيق. وتوافد أهالي ضحايا الانفجار ونواب في البرلمان ومواطنون على قصر العدل للمطالبة بالسماح لبيطار بمواصلة تحقيقه.
وكان المجلس الأعلى للقضاء قد قرر في أيلول/ سبتمبر الماضي تعيين قاضي تحقيق إضافي في الملف، قبل أن يتراجع عن ذلك بعد معارضة عائلات الضحايا ورئيس المجلس القاضي سهيل عبود.
ويخلص نجار إلى القول: “نحن بصدد التوجه إلى مواجهة مباشرة إذا ما تم إبعاد القاضي بيطار عن الملف، يجب علينا التحرك لتفادي ذلك وتحذير المجتمع الدولي بأن لبنان أصبح دولة فاشلة بالكامل”.
وينتظر بول نجار مآل شكاوى قدمت خارج البلاد، بعيدا عن النظام القضائي المحلي الذي ينظر إليه على أنه تحت سيطرة طبقة سياسية ترفض أي تحقيق دولي.
وفي 13 تموز/ يوليو الفائت، قدم أقارب ضحايا، بدعم من مجموعة “أكونتابيليتي ناو” السويسرية، دعوى قضائية في محكمة تكساس الأمريكية ضد “تي جي أس” وهي شركة أمريكية-نورويجية متهمين إياها بتسيير باخرة “روسوس” التي نقل على متنها أطنان نترات الأمونيوم التي تسبب بالانفجار.
من جهتها، دعت منظمتا هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى “تبنى قرار عاجل لتعيين لجنة تحقيق محايدة”.
واعتبرت المنظمات في بيان مشترك أنه “من الواضح أن السلطات اللبنانية عازمة على عرقلة العدالة”.
أعده بالفرنسية مارك ضو