تلقّى حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا ضربة موجعة في الانتخابات المحلية، التي جرت يوم الأحد، بخسارته المنافسة على زعامة العديد من البلديات، بما فيها رئاسة بلديات أكبر خمس مدن في البلاد، وتخلفه عن حزب “الشعب الجمهوري” المعارض في معدل التصويت على المستوى الوطني للمرّة الأولى منذ وصوله إلى السلطة قبل أكثر من عقدين.

ومع أن هذه النتائج لن تؤثر بشكل مباشر على حكم أردوغان والفترة المتبقية من ولايته الرئاسية، ولن تؤدي إلى تداعيات تُغير موازين القوى السياسية في البرلمان، الذي يحظى فيه التحالف الحاكم بأكثرية المقاعد، فإنها قد تكون بداية لتحول سياسي كبير، إذا لم يتمكن أردوغان من عكس هذا المسار قبل اقتراب نهاية ولايته الحالية في عام 2028، وإذا استطاع حزب “الشعب الجمهوري” الاستفادة من فرصة الاستيلاء على العدد الكبير من البلديات الكبرى والمتوسطة من أجل تعزيز قاعدة الدعم الشعبي له، والوصول إلى ملايين الناخبين من خلال الخدمات البلدية، وغيرها.

نجاح أكرم إمام أوغلو في الحفاظ على رئاسته لبلدية إسطنبول الكبرى، يُعزز طموحاته بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وحالته كزعيم جديد للمعارضة استطاع أن يقود تغييرًا داخل حزب “الشعب الجمهوري” في فترة وجيزة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة

إذا كان هناك من سبب رئيسي يُفسر هذه الهزيمة القاسية للحزب الحاكم، فهو الاقتصاد. إن ارتفاع تكلفة المعيشة إلى مستويات لا تُطاق، وسياسات التقشف الجديدة التي انتهجها أردوغان بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية السابقة، وسنوات من الإدارة الاقتصادية المضطربة، كلها عوامل دفعت شريحة واسعة من الناخبين إلى اختيار هذه الانتخابات كوسيلة لمعاقبة أردوغان، وتوجيه تحذير شديد القسوة له، على الرغم من أنها دعمته في الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل عشرة أشهر فقط.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يختار فيها الأتراك معاقبة أردوغان على مستوى سياسي أقل. لقد حدث ذلك أيضًا في عام 2019 عندما خسر الحزب الحاكم عددًا من البلديات الكبرى، وعلى رأسها إسطنبول والعاصمة أنقرة. مع ذلك، فإن الحدّة التي اختار فيها الأتراك معاقبة أردوغان هذه المرة خلقت فرصة نادرة لحزب “الشعب الجمهوري” المعارض لإحداث تحول سياسي كبير وطي حقبة حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات المقبلة.

حتى في الوقت الذي ألحقت فيه الانتخابات المحلية ضررًا معنويًا بالغًا بالحزب الحاكم، وزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، فإن تداعياتها ستعمل على إعادة تصميم السياسة الداخلية على نطاق أوسع.

وتبرز هذه التداعيات بشكل أوضح في تصدر حزب “الشعب الجمهوري” المعارض قائمة التصويت على المستوى الوطني للمرة الأولى منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو ما يُعيده قوة سياسية كبيرة بعد عقود طويلة من الضعف والتراجع.

كما أن نجاح أكرم إمام أوغلو في الحفاظ على رئاسته لبلدية إسطنبول الكبرى، يُعزز طموحاته بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وحالته كزعيم جديد للمعارضة استطاع أن يقود تغييرًا داخل حزب “الشعب الجمهوري” في فترة وجيزة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، وتمكن من تحقيق إجماع في حالة المعارضة على المستوى الشعبي في الانتخابات المحلية، دون الحاجة إلى تحقيقه على المستوى السياسيّ.

علاوة على ذلك، أعادت نتائج انتخابات الحادي والثلاثين من مارس/ آذار تشكيل الخريطة الحزبية في السياسة التركية، ليس فقط على مستوى تقدم حزب “الشعب الجمهوري” وتراجع حزب “العدالة والتنمية”، بل أيضًا على صعيد بروز أحزاب جديدة كقوة مؤثرة مثل حزب “الرفاه الجديد” المحافظ الذي تصدر المرتبة الثالثة على مستوى التصويت الوطني، وتراجع حزب “الجيد” القومي المعارض الذي كان يُشكل ثاني أكبر قوة سياسية معارضة.

وستكون العواقب المنتظرة على حزب “الجيد” بعد هذه الانتخابات أكبر، مقارنة بأي حزب آخر غير العدالة والتنمية. ومع إعلان زعيمة الحزب ميرال أكشينار التحضير لعقد مؤتمر استثنائي للحزب، فإن تغييرًا كبيرًا في القيادة ينتظره بعد فشل رهانات أكشينار على تحقيق مكاسب قوية في هذه الانتخابات من خلال الانفصال عن حزب “الشعب الجمهوري”، وتقديم حزبها كبديل ثالث للثنائية الحزبية التقليدية المتمثلة بحزبي “العدالة والتنمية” و”الشعب الجمهوري”.

تظهر نتائج الانتخابات تقلّص مستويات التأييد بشكل حاد للأحزاب السياسية المتوسطة مثل أحزاب: “الجيد” و”الحركة القومية” و”المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي، مقابل تعزيز حالة الهيمنة الثنائية المتمثلة بحزبي “العدالة والتنمية” و”الشعب الجمهوري”.

وإذا ما تكرست موازين القوى الحزبية وفق الوضع الجديد، فإن هذه الأحزاب ستُصبح أكثر عرضة للمزيد من التقلّص لصالح الأحزاب الكبرى على الرغم من أنها ستبقى مؤثرة في تشكيل ديناميكيات السياسة الداخلية، خصوصًا مع تقلّص الهوّة بين الحزبين الكبيرين إلى مستويات متقاربة.

لقد دخلت السياسة التركية بالفعل حقبة جديدة بعد الحادي والثلاثين من مارس/ آذار، والكيفيةُ التي سيتعامل بها أردوغان مع هذا المنعطف المفصلي في تاريخ السياسة التركية ستُحدد ما إذا كانت انتخابات 31 مارس/آذار، ستؤدي إلى تحول سياسي كبير في نهاية المطاف.

حقق حزب “الشعب الجمهوري” نتائج قوية وغير متوقعة، لكنّ هذه النتائج يجب ألا تدفعه إلى الشعور بالرضا عن النفس؛ لأنها كانت بالدرجة الأولى تصويتًا ضد حكم الرئيس رجب طيب أردوغان قبل أن تكون لصالح حزب “الشعب الجمهوري”. مع ذلك، فإن الانتخابات خلقت فرصة للحزب لتحويل قاعدة الدعم الجديدة له إلى قاعدة صلبة إذا ما أحسن إدارة البلديات التي سيطر عليها في السنوات الخمس المقبلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



Source link

من sadawatan

اترك رد